وارتجت المدينة لوفاة أبي بكر، ولم تر المدينة منذ وفاة الرسول يوماً أكثر باكياً وباكية من ذلك المساء، وأقبل علي بن أبي طالب مسرعاً باكياً مسترجعاً، ووقف على البيت الذي فيه أبو بكر، فقال: « رحمك الله يا أبا بكر، كنت إلفَ رسول الله وأنيسه، ومستراحه وثقته، وموضع سره ومشاورته»، إلى أن قال: « والله لن يصاب المسلمون بعد رسول الله بمثلك أبداً، كنت للدين عزاً وحرزاً وكهفاً، فألحقك الله عز وجل بنبيك محمد ، ولا حرمنا أجرك ولا أضلنا بعدك»، فسكت الناس حتى قضى كلامه، ثم بكوا حتى علت أصواتهم، وقالوا: «صدقت» | روايته: كان أبو بكر أكثر الصحابة ملازمة للرسول صلى الله عليه وسلم وأسمعهم لأحاديثه، وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة، وروى عن أبى بكر كثير من الصحابة منهم: عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلىّ بن أبى طالب، وعبد الرحمن بن عوف، وحذيفة بن اليمان، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وزيد بن ثابت {رضى الله عنهم أجمعين}، ومما رواه على قال: حدثني أبو بكر {وصدق أبو بكر} أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما من عبد يذنب ذنبًا فيتوضأ فيحسن الوضوء ثم يصلى ركعتين فيستغفر الله إلا غفر له |
---|---|
مؤرشف من في 9 يناير 2020 | قال: إن الحي هو أحوج إلى الجديد ليصون به نفسه عن الميت، إنما يصير الميت إلى الصديد وإلى البلى" |
وقد أوصى أن تغسله زوجه ، وأن يدفن بجانب النبي محمد، وكان آخرَ ما تكلم به أبو بكر قولَ الله تعالى: « توفني مسلماً وألحقني بالصالحين» | والصديق أعظم الأمة إيمانا بالله، فقد تغلغلت كلمة التوحيد في سويداء قلبه، وانعكست آثارها في حياته، يقول أبو بكر بن عياش: «لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان أهل الأرض لرجح» ثم إن حب الصديق للنبي فاق كل حب لمحبوب على وجه الأرض، بل هو الحب الخالد، بخلود النبي-صلى الله عليه وسلم- وأيم الله لقد أحب الصديق محبوبه بكل جوارحه، بل ليس هناك على ظهر الأرض من يحب رسول الله كالصديق-رضي الله عنه-! كان هرمز قد كتب إلى كسرى بأمر خالد، فأمده كسرى بجيش بقيادة "قارن"، ولكن هرمز استخف بجيش المسلمين فسارع إليهم قبل وصول قارن، فنُكب ونُكب جيشه، وهرب فلول المنهزمين فالتقوا بجيش قارن، وعسكروا بمكان يسمى المذار، وكان خالد قد بعث وأخاه المعني في آثار الفرس ففتحا بعض الحصون، وعلما بمجيء جيش الفرس فأبلغا خالداً الخبر، فسار خالد حتى التقى بهم في المذار فاقتتلوا، وخرج قائدهم قارن ودعا إلى البراز، فبرز إليه خالد ولكن سبقه إليه معقل بن الأعمش بن النباش فقَتل قارن، وكان قارن وضع على ميمنته "قباذ" وعلى ميسرته "أنوشجان" وهما من القواد الذين حضروا اللقاء الأول وفرُّوا من المعركة، فأما قباذ فقتله ، وأما أنوشجان فقتله ، واشتد القتال بين الفريقين، ولكن الفرس انهزموا بعد مقتل قادتهم، وقُتل منهم ثلاثون ألفاً، ولجأ بقيتهم إلى السفن فهربوا عليها، وأقام خالد بالمذار |
---|---|
خديجة رضي الله عنها وضع عندها المسلمون المصحف الذي جمعه ابو بكر الصديق | قالوا: "أو تصدقه أنه ذهب الليلة إلى بيت المقدس وجاء قبل أن يصبح؟" قال: "نعم، إني أصدّقه فيما هو أبعد من ذلك، أصدقه بخبر السماء في غَدْوَةٍ أو رَوْحَةٍ ، فلذلك سُمِّي أبو بكر الصديق" |
ثبات أبي بكرٍ الصديق ضرب -رضي الله عنه- أروع الأمثلة في الثبات في وجه الفتن، فعلى الرغم من شدة الابتلاءات التي تعّرض لها إلّا أنّه بقي ثابتاً كالطود في وجهها، ومن هذه الصور، ثباته أمام فتنة المال، تلك الفتنة العظيمة التي قل ّمن يثبت أمامها، حيث قال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: ابتُلِينَا مع رسولِ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- بالضَّرَّاءِ فصَبَرْنا، ثم ابتُلِينا بعدَه بالسَّرَّاءِ فلم نَصْبِرْ ، فعلم أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- أنّ فتنة الأمة في المال، فقد سمع صلّى الله عليه وسلّم يقول: إنَّ لكلِّ أمَّةٍ فتنةً، وفتنَةُ أمَّتي المالُ ، فثبت الصديق في وجه فتنة المال، فكان ينفق كلّ ماله في سبيل الله، حتى لا يُبقي لنفسه ولأهله شيئاً منه، ولمّا تولّى الخلافة، وفتح الله -تعالى- على المسلمين، وبعد أن أصبحت أموال من حروب الروم، والفرس، والمرتدين تتدفّق إلى بيت المال، وعلى الرغم من قدرة الصديق -رضي الله عنه- على التصرّف بالأموال كيفما شاء، إلّا أنّ حملته إلى التجارة بالأثواب في السوق كعادته؛ ليتحصّل قوته وقوت عياله، حيث إنّ -رضي الله عنه- لقيه، فقال له: أين تريد؟ قال: إلى السوق، قال عمر: تفعل ماذا وقد وليت أمر المسلمين؟ قال: ومن أين أُطعم عيالي؟ فاقترح عليه عمر أن يذهب إلى أبي عبيدة رضي الله عنه، ليفرض له قوته وقوت عياله، فذهبا إليه، ففرض له عطاءً من.
2